من أجل بلعين خامسة وسادسة وسابعة..
أرسلت الحكومة الإسرائيلية طواقم إنقاذ كبيرة إلى جزيرة هايتي، ضمت عشرات الأطباء والممرضين وطواقم من الجبهة الداخلية أقاموا مستشفى ميدانيًا هناك. تضامُن جميل مع شعوب العالم، ولكن إسرائيل كعادتها لا تفعل شيئًا لوجه الله. فقد أفرطت في الإطراء على نفسها، وبالغت وسائل إعلامها في تغطية كل تحرك للطواقم الإسرائيلية هناك حتى بدا الأمر وكأنه مسرحية محبوكة، فسبحان الله: كل حركة قامت بها الطواقم، كل طفل أو امرأة تم نشلهم من تحت الأنقاض صُّورت ووُثقت ونُشرت. ورصدت وسائل الإعلام الإسرائيلية يومياً الإطراء الذي حظيت به هذه الطواقم من قبل وسائل الإعلام الأجنبية. لقد كانت إسرائيل بحاجة إلى فرصة كهذه، في ظل تدهور صورتها في المجتمع الدولي، حيث بدا وأنهم بحاجة لأن يثبتوا شيئاً ما للعالم وربما قبل ذلك لأنفسهم!
من الجهة الأخرى، قررت الحكومة الفلسطينية بإمكاناتها الضئيلة إرسال معونات إنسانية للجزيرة المنكوبة، وتوجه وفد من الأطباء الفلسطينيين المتواجدين في أمريكا اللاتينية برفقة أطباء كوبيين يرأسهم السفير الفلسطيني في كوبا لمساعدة ضحايا الزلزال. كما جمع أهالي الأسرى في غزة المحاصرة التبرعات من اجل هايتي. هذا العمل له أبعاد شديدة الأهمية، فنحن الفلسطينيون، خاصة الذين نقبع تحت الاحتلال وبراثنه، ما زلنا قادرين على التعاطف مع كل شعوب العالم وتقديم ما تيسّر من مساعدة إليهم. هذا هو الشعب الحي، الذي يخرج من تحت المأساة ليتضامن مع مآسي شعوب أخرى. ربما فعل الفلسطينيون ذلك أيضاً من اجلهم ولكنهم على الأقل فعلوه بكل تواضع وبدون التطبيل والتزمير ليل نهار.
//نعم لعشرات “بلعين”!
يدرك حكّام إسرائيل جيداً ان وقف العمليات الفلسطينية المسلحة في إسرائيل يَضُر بمصلحتهم. فها هو رئيس الاستخبارات العسكرية، عاموس يدلين، يطلعنا هذا الأسبوع في لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست على “الحكمة” التالية: هناك ميل طبيعي في العالم للوقوف إلى جانب الطرف الضعيف، وبما أن إسرائيل لا تواجه في الفترة الأخيرة أعمالاً إرهابية أو تهديداً عسكرياً فورياً، هذا يدفع المجتمع الدولي إلى قبول ادعاءات ضد عمليات ونشاطات إسرائيل الأمنية.” وفي مقال في صحيفة “يديعوت أحرونوت”، يكتب ايتان هابر هذا الأسبوع بأن “هناك نوعا جديدا من الإرهاب يمارس على إسرائيل، وهو نزع الشرعية عنها عالميًا. فالعالم يميل إلى الفلسطينيين. لا نستطيع القضاء على هذا النوع من الإرهاب ولهذا علينا أن نرجو بان يرتكب الفلسطينيين أخطاءً.”
هذا يضع تحديات أمام الفلسطينيين لعدم ارتكاب أخطاء في هذا المضمار. فالنضالات الشعبية مثال بلعين ونعلين ومؤخراً في الشيخ جراح والنبي صالح والتي يشارك أسبوعياً نشطاء فلسطينيون (وفي بعض منها نشطاء إسرائيليون أجانب) في مظاهرات شعبية سلمية، أثبتت أنها أكثر نجاعة وتأثيراً لصالح القضية الفلسطينية من سائر الأعمال التي تطلـَق عليها أحيانًا صفة “المقاومة”. وليس صدفة أن تقوم إسرائيل بمحاولة قمعها، حيث قامت باعتقال قادة هذه النضالات أمثال الناشطين جمال جمعة وعبدالله أبو رحمة ومحمد عثمان، وعشرات المتظاهرين وخاصة الإسرائيليين في الأسابيع الأخيرة.
صحيح أن غياب العمليات جعل الإسرائيليين يتمتعون بالرفاهية وينعمون بالأمان وبالنتيجة يفضلون الوضع الراهن، ولكن هل كانوا في أوقات العمليات التفجيرية أكثر رغبة في إنهاء الاحتلال؟ هل بعد كل عملية ازداد إيمانهم بالسلام؟ إذًا ما الفرق؟ الفرق هو أنهم الآن لا يدفعون ثمنًا “مباشرًا” للاحتلال ويمارسون حياتهم الطبيعية والآمنة والهادئة دون أن يأبهوا لما يحدث على بعد عشرات الكيلومترات عنهم. نعم. صحيح. ولكن هذا ليس كل شيء، فالثمن الذي بدأ الإسرائيليون دفعه هو من نوع آخر، حركة المقاطعة ونزع الشرعية عن سياسة إسرائيل في العالم، ثمنًا ليس دمويًا وما زال متواضعًا ولكن يمكنه أن يصبح مكلفًا ومؤلمًا إذا تواصلت وتضافرت الجهود.
فالحركة الداعية إلى مقاطعة إسرائيل، فرض عقوبات عليها أو سحب استثمارات منها (BDS) آخذة في الازدياد. هذه الحركة، التي اقتصرت قبل عدة أعوام على أوساط أكاديمية نخبوية، تحولت تدريجيًا إلى حركة شعبية في كافة أنحاء العالم، ولها بذور في إسرائيل نفسها. ونذكر على سبيل المثال الحملات لمقاطعة بضائع المستوطنات ومشروع ائتلاف النساء للسلام “من يربح” (“Who Profits”) والذي يعمل منذ عامين على رصد وتوثيق معلومات بشكل مهني حول الشركات التجارية التي تستفيد من الاحتلال، أو تستثمر فيه وفي مستوطناته، حيث تشكل هذه المعلومات قاعدة معلومات حيوية وهامة في سياق فضح أو إحراج الشركات وحثها أو حث زبائنها على مقاطعة الاحتلال.
يضاف إلى هذا الجهود لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين قضائيًا وسياسيًا. والتي أخذت منحًى أكثر حدة خاصة في أعقاب تقرير غولدستون.
يمكننا الجزم بأن هناك صحوة في العالم لصالح الشعب الفلسطيني، متواضعة ربما، ولم تصل بعد إلى الحكومات والسياسات العليا بالشكل الكافي، ولكنها صيرورة تراكمية، فلا يمكن في هذا السياق أن نتجاهل المبادرة السويدية للاعتراف الأوروبي بالقدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة، وقرار الحكومة البريطانية بوصم منتجات المستوطنات لإتاحة مقاطعتها. هذه الخطوات لم تأت من فراغ ولا صدفة!
وهذا بالضبط ما يقض مضاجع حكّام إسرائيل ويجعلها تبذل جهودًا وتطوّر استراتيجيات أولاً لاستعادة تعاطف العالم معها، وثانياً لدفع الفلسطينيين للدخول لمفاوضات عبثية أو لارتكاب “أخطاء” من أجل إسكات العالم.
لهذا، لا مجال للخطأ، التحدي الأكبر هو الـمُصالحة الفلسطينية، وفي المقابل مواصلة النضال الشعبي في كل مكان، وتعزيز حركة المقاطعة. وواجبنا أن نشارك في أي جهد يصب في هذا الاتجاه. مقاطعة بضائع المستوطنات هي أضعف الإيمان، ذلك أن تجربة جنوب إفريقيا تستدعي منا التعويل على مثل هذه الجهود. وفوق كل هذا، المشاركة في التظاهرات الأسبوعية في بلعين ونعلين والشيخ جراح والنبي صالح وخلق بلعين خامسة وسادسة وسابعة.