نبدأ من أوّل السطر لنناقش بديهيات في مسألة زيارة فنانين عرب للداخل الفلسطيني (وذلك على ضوء زيارة الشاعر المصري المرتقبة هشام الجخ الى مدينة الناصرة بتأشيرة إسرائيلية طبعا لاقامة امسية شعرية في الحادي عشر من شباط):
1) مسألة رفض التطبيع، قبل أي شيء هي مسألة فطرية، لنترك نقاش المعايير جانبا. وبالفطرة، لا زالت (والحمد لله) الشعوب العربية (بعيدا عن الأنظمة) والشعب الفلسطيني ترى في إسرائيل عدوّا، وأن التعامل مع سفاراتها هو اعتراف بشرعيتها وكسر الحاجز النفسي والسياسي معها.
2) واذا كنتم مصرّين على الحديث عن المعايير، فنعم، هنالك معايير رسمية أي مكتوبة، للبعض هي تعبر عن الحد الأدنى من المعايير، أجمع عليها قطاع واسع من المجتمع المدني الفلسطيني، وحركات سياسية واتحادات ونقابات (فوق الـ 170 مؤسسة). هذه المعايير لا تنظر من منظار الفلسطيني ابن الناصرة الذي يرغب في حضور حفلة لفنان عربي في الناصرة، بل من منظار مصلحة كامل الشعب الفلسطيني.
3) تعداد الشعب الفلسطيني كاملا هو 11 مليونا ونصف المليون، نسبة فلسطينيي الداخل منه لا تتعدى الـ 13%، (يعني لو صارت اليوم انتخابات للـ 11 مليونا يا دوب نجيب 6-7 كراسٍ حتى مع قائمة مشتركة!)، ولا يمكن لهذا الشق أن يخفض الحد الأدنى من معايير التطبيع بسبب الرغبة في “التواصل الثقافي”. القسم الأكبر من شعبنا، (أكثر من النصف) هو لاجئ، محروم من حقه في العودة إلى دياره (ولا حتى زيارتها)، أو يرزح تحت احتلال عسكري وسجن تتحكم إسرائيل بمن يدخل أو يخرج اليه. بدلا من مطالبتهم هم بخفض المعايير وتمييعها، من الأجدى أن نبقى جزءا من هذه الفطرة.
4) “خصوصيتنا في الداخل” ليست مطيّة، بل يجب أن تكون رافعة للنضال الوطني. ولا مقارنة هنا مع علاقتنا اليومية والحياتية بالمؤسسات الإسرائيلية. فهي علاقات قسرية وليست باختيارنا، أو على الأقل هي لم تكن لتكون لو لم نتمسك بوطننا، وهذا هو الأساس. فأرجو أن لا تعودوا إلى “يعني دراستنا في الجامعات الإسرائيلية تطبيع؟”، اعتقد أن هذا تسطيح للنقاش.
5) وهنالك أيضا من يقحم قضية التصاريح من الضفة وغزة لزيارة القدس. طبعا هناك اشكالية ونقاش كبيران في مسألة التصاريح، وخاصة اذا نظرنا لها كأداة بيد الاحتلال للتحكم بحياتنا وحركتنا ولابتزازنا وتدجيننا. ولكن النقاش حولها هو في سياق آخر، ليس سياق التطبيع.
6) هناك دائما تبرير ينطلق من أن المليون ونصف مليون من فلسطينيي الـ 48 هم الضحية الكبرى لنظام الاستعمار، لأنه تمت مقاطعتنا من قبل الأنظمة العربية وعزلنا من العالم العربي عقابا على بقائنا في وطننا. صحيح أننا عانينا من هذا الغبن، ولكن هذا الغبن هو جزء من سلسلة معاناة، تتخذ اشكالا مختلفة لاجزاء شعبنا المختلفة، في غالبيتها أقسى بكثير من غبن عزلنا.هذا التبرير تطوّر إلى نَفَس خطير يفصلنا عن نضال شعبنا، الذي نعتبر نفسنا جزءا لا يتجزأ منه. ربما يكون “انفتاحنا” الآن على العالم العربي هو تعويض عقود من الحرمان، لكن أن نعوّض ذلك من خلال المساهمة في تقويض حركة المقاطعة ومناهضة التطبيع، يعني أن نؤكد بأنهم كانوا محقّين في تخوفاتهم منّا.
وبالمناسبة، لم ينكر أحد علينا حاجتنا للتواصل مع العالم العربي، فمثلا في ورقة حملة المقاطعة المتعلقة بالـ 48 كتب: “من الأهمية بمكان أن تسهم حملة المقاطعة في رفع الوعي في الوطن العربي حول كون فلسطينيي 48 جزءًا لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، وفي تشجيع استضافة المؤتمرات والمهرجانات والمعارض والندوات التي تقام في الوطن العربي للفنانين/ات والأكاديميين/ات الفلسطينيين/ات من مناطق الـ 48 الذين يلتزمون بمعايير المقاطعة.”
7) أما بخصوص “التواصل الثقافي”، نعيد ونكرر: لا ادري، فعلا، كيف تربينا على أغاني فيروز ووديع الصافي وأم كلثوم وعبد الحليم والشيخ إمام بدون هذا “التواصل الثقافي”؟ كيف حفظنا عن ظهر قلب مسرحيات عادل إمام ودريد لحام وزياد الرحباني قبل “التواصل الثقافي”؟ وكيف كنا نتحدث هاتفيا مع مرسيل خليفة واحمد قعبور وأحمد فؤاد نجم في اجتماعات شعبية ومهرجانات وطنية قبل “التواصل الثقافي”؟ هؤلاء بفطرتهم، لم يفكروا حتى في الحضور جسديا إلينا، ولا أعرف إن كان هناك تواصل أكبر وأرقى وأغنى من تواصلنا معهم.
8) كل من يتحدث عن أن المسألة مسألة “وجهات نظر”، أرجو أن ترأفوا بعقلنا، فهناك من يدّعي بأن الخدمة المدنية هي فعل وطني، واستطيع أن اشير الآن إلى كذا حجة في صالح هذا الادّعاء. في تلك الحالة، “وجهة النظر الأخرى” لم تكن شرعية، وبحق. لماذا؟ لأن هناك فطرة.
9) لسنا ضد أن يأتي فنانون عرب إلى الناصرة. لكن إذا كانت الطريقة الوحيدة هي التطبيع، فنحن ضد التطبيع. عدم قدومهم هو فقط النتيجة.
10) أنا شخصيا أرفض خطاب التخوين ولن أستخدمه. لكن باعتقادي المتواضع فإن المسألة ببساطة، أننا في الداخل، للأسف، لدينا من الرفاهية ما يجعلنا نعتقد بأن العالم يدور حولنا.
وفي الختام، أكثر ما يحضرني هنا هو الشعار الذي كنت أسمعه في ميدان التحرير أثناء الثورة المصرية “الحرية مش ببلاش”. ميزته ببساطته وبعمقه. لا يوجد نضال من أجل الحرية والعدالة دون ثمن. المشكلة أننا نتحدث هنا، عن ثمن ضئيل (هذا اذا لم نخجل أن نسميه ثمنا) أمام تضحيات شعبنا، ينحصر بعدم حضور عرض فني في الناصرة.