ليلة الاثنين 31 كانون ثاني، أي عشية أول مظاهرة مليونية دعا إليها الثوار، لم أنم. كنت أنا وصديقتي في غرفة في فندق يطل على الميدان. طلبنا العشاء إلى الغرفة، وهي المرة الأولى، والأخيرة، التي نأكل بها وجبة طبيعية منذ أن اندلعت الثورة. شاهدنا الأخبار وبدت الليلة طويلة، لا مكان فيها للنوم. وفعلاً، لم استطع ليلتها النوم، فقررت أن أسهر في الشرفة التي تطل على الميدان، الذي لا يهدأ للحظة. وها أنا انقل لكم قسطاً مما دوّنته في مذكرتي الساعة 3:30 صباح الثلاثاء.
“ما زال هنالك الآلاف، الأغاني الوطنية والهتافات تصدح، الميدان مكتظ بالخيام، والناس لا ينامون أو لا يريدون أن يناموا. الحشود تنتظر أن تسمع خبر الرحيل. هنالك مجموعات ما زالت تمشي وتجوب الميدان تحمل الشعارات وتصرخ بالهتافات. أسمع أغنية عبد الحليم “ثورتنا المصرية” عبر مكبرات الصوت، وهنالك بث للجزيرة عبر شاشة كبيرة، فالميدان أصبح مجهزاً بكافة التقنيات. نعم، أذكر الشباب الذين كانوا يجمعون التبرعات قبل يوم لشراء شاشات ومكبرات صوت لربط “جمهورية ميدان التحرير” بالعالم الخارجي.
ثم يصل من الشاشة صوت الشاعر تميم البرغوثي يخاطب عبر “الجزيرة” جماهير الميدان ويلقي قصيدة “يا مصر هانت وبانت”، والجماهير تصغي وتصفق بحرارة. ثم يلتقي الميدان بالمعتصمين في الإسكندرية مباشرة عبر شاشة الجزيرة، فيحيونهم بالصفير والتصفيق الحار. ثم أسمع مجموعة تغني “يا حبيبتي يا مصر يا مصر” ويرتفع الصوت أكثر وأكثر حين يصل مقطع “نموت لمصر ونعيش لمصر، تحيا مصر”. أتساءل: من أين يأتي الناس بكل هذه الطاقات؟”
يوم الثلاثاء، المظاهرة المليونية. لقد تشكلت لجان شعبية لتنظيم المظاهرات، والتي توزعت في جميع مداخل الميدان، لفحص البطاقات وتفتيش الداخلين لضمان عدم دخول مندسين للتخريب. كان الدخول للرجال من جهة وللنساء والعائلات من جهة أخرى حيث تطوعت نساء أيضاً في اللجان لتفتيش النساء جسدياً للتأكد من أن لا أحد يحمل السلاح. كان الدخول منظماً وكذلك الخروج، وأذكر أني وأصدقائي أردنا التنقل من مكان إلى آخر وخرجنا من إحدى الطرق، فقال لنا إحدى المنظمين، “الخروج ليس من هنا، الرجاء الخروج من المكان الآخر، هنا فقط الدخول”. وعندما خرجنا رأينا الناس يصطفون بصبر وهدوء الواحد وراء الآخر، دون تذمر أو تدافع. وسمعت أحدهم يقول، “مش عايزينها فوضى، عايزين بلدنا تبقى نظام، مش عايزين بلدنا زي أول، عايزين مصر جديدة.”
في الشارع المؤدي من ميدان طلعت حرب إلى التحرير حيث مقر احد أحزاب المعارضة، وضعت مكبرات صوت من الطابق الثاني واصطف الآلاف في الشارع يحملون أعلام مصر الكبيرة ويلوحون بها، غنى الناس سوية “وطني حبيبي الوطن الأكبر”، وهي من الأغاني التي كانت تتردد كثيراً خلال الثورة، فالأذواق، لا القيم فقط، تتغير في الثورات. لقد عاد الثوار إلى الأغاني الوطنية القديمة والراقية، الشيخ إمام وعبد الحليم وأم كلثوم وغيرهم.
يوم الثلاثاء، اليوم الأكثر اكتظاظاً وبالكاد كانت هنالك مساحة للتنفس، لم نواجه أي تحرش. التحرشات اختفت تماماً من الميدان. هنالك ما هو أهم ليشغل الشباب، وربما هو الحب والانتماء للبلد من جديد، ورغبة في عدم تشويه صورتها، وربما لأن من يدخل الميدان يدخل عالماً من القيم، لا يريد أن يُحسب عليه إفسادها. رأينا تجمعات كبيرة في عدة مقاطع من الميدان تصلي، وتجمعات كبيرة لا تصلي، ولا أحد يحاسب أحداً. فمن أثبت ولاءه لوطنه، لم يعد بحاجة لأن يثبت أي شيء لأيّ احد.