كثيرة هي المشاهد التي جعلتني أذرف الدموع، لا أرغب في التحليل ولا التفسير، لكني اعتذر
ت هناك واعتذر للمرة الألف: نعم أنا كنت ضحية التضليل الإعلامي والسينما المصرية النمطية، ومعبأة بالأفكار المسبقة عن الشعب المصري، لكنني معذورة. فجيلي تربى وعاش على الهزائم. معذورة لأني ولدت بعد العبور، ولأني تماماً مثل الشباب المصري لم أعرف مصر سوى في عهد مبارك.
يوم السبت 29 كانون ثاني، أصبح ميدان التحرير هو “المكان”. لقد وصف البعض الميدان بأنه المكان الذي يَغسِل كل من يدخله. لا، الناس ليست بحاجة لأن يتم غسلها، بل ان الميدان كان ينزع عمّن يدخله حاجزاً سميكاً وضعه النظام بين الناس وبين مصر. في الميدان التقى المصريون بمصر، بعد فراق دام ثلاثين عاماً. لقد تأخر اللقاء، فكتب أحدهم على علم مصر أكثر الشعارات التي أحببتها وأبكتني “معلش يا بلدي اتأخرت عليكي”..
حين تصلين الميدان كل صباح، تتوالى عليك المشاهد دون رحمة، تُجبُركِ على تلقيها، تُرغِمُكِ على استيعابها، وتقاومين، تحاولين ترتيبها، تفسيرها، فهمها، إدراكها، لكن لا مجال ولا وقت، فالثورة لا تحتمل التحليلات النفسية والنظريات العلمية.
لقد أذهلني استقبال الثوار للجيش حينما وصل لأول مرة إلى الميدان يوم السبت على مدرعاته، حيث تعالت الهتافات والتصفيق ووزعت الورود على الجنود: “الجيش والشعب، إيد وحدة” هتف الجميع. في هذه اللحظة بالذات شعرت بالغيرة من المصريين، لأني لم أع من قبل، أن بالإمكان لشعب أن يحب جيشه حبًا كهذا.
ثم رأينا الشباب الذي شُبكت أذرعه أمام بوابات المتحف القومي لمساعدة الجيش على حمايته من التخريب والسرقة، وصوت خرج من بينهم ينادي “اللي بحب مصر يجي يقف معانا”. ومشهد محطة التطوع “للجان الشعبية لحماية المنشآت”، حيث كان الناس يتدافعون لتسجيل اسمائهم للتطوع فيها. وفي المساء صار لدى الجميع أرقام هواتف للجان الشعبية للتبليغ عن أية حوادث اعتداء أو بلطجية أو نهب. رأينا شبانًا وشابات جابوا الميدان يوم السبت ينادون بعدم التخريب ويهتفون “ثورة ثورة للحرية، مش انتفاضة حرامية”. والشباب الذي انشغل يجمع النفايات وينظف الشوارع. تحدثتُ إلى أحدهم، فقال لي انه شارك في مظاهرة لأول مرة في حياته يوم الثلاثاء 25 يناير، ويقول إنه نزل بصراحة “سياحة” ولم يكن يؤمن بأي شيء، لكن الثلاثاء كانت نقطة تحول بالنسبة له وها هو الآن لا يفارق الميدان ويتطوع في تنظيفه. ورأينا أحد الأطفال يتنقل بين الناس في الميدان لتوزيع التمر عليهم، ورجلا مسنا يمشي في الميدان وحده حاملاً علم مصر والورود.
كان اهتمامي الأكبر أن استرق السمع لحديث الناس، وأكثر ما أثر بي، ذلك الشاب الذي كان يكلم صديقه ويقول له، “أنا أول مرة أشوف المصريين بحبوا بعض”. وأذكر ذاك الصديق الذي قال ذات صباح: “أنا عمري ما شفت مصر نظيفة كده”. لقد كان الناس أحياناً يمشون يتكلمون وحدهم، وأحياناً يغنون وحدهم “يا حبيبتي يا مصر يا مصر”، و “نعيش لمصر ونموت لمصر، مصر مصر تحيا مصر”. وأسمع بعض الشباب يقول بأنه كان يفكر في الهجرة، لأن لا مستقبل له في بلده، لكنه بعد ما حدث، لم يعد يريد ترك بلده.
يخيل إليك أن حباً كُبت ثلاثون عاماً، انفجر مرة واحدة، وانفجر بعدة أشكال ومذاهب، ولدى كل الطوائف والفئات، وكافة الشرائح والطبقات، ومن أصغر الأطفال إلى أكبر الأجداد. سيدير هذا الشعب البلد في أيام الثورة، سيحرس ويُنظِّم المرور وينظف الشوارع، فالبلد أصبحت بلده.