كانت الرحلة من لندن الى باريس طويلة ومتعبة، المحطة الاولى في باريس كانت “بونليو”، من هنا انطلقنا الى مركز البلد للانضمام الى بعض الاصدقاء الذين تجمعوا في قارب يعتبر مركز للنشطاء اليساريين وخاصة التحرريين. هناك جلس الجميع مترقباً امام شاشة التلفاز، في الساعة الثامنة مساءً، أعلنت النتائج غير الرسمية. صمت.. نيكولا ساركوزي 53% وسيغولين رويال 47%. صمت. وجوه عابسة، لا يمكن الحديث الان، لا أحد يريد قول شيء. على الرغم من أن الأمر كان متوقعًا إلا أن أحدًا لم يرد أن يصدق بأن فرنسا، بين ليلة وضحاها، ستصبح فرنسا أخرى، الجميع تأمل بأن تحدث مفاجئة، لكن المفاجئة لم تتعد حدود كونها مفاجئة!
بقي الجميع في حالة صدمة، الكلام لم يكن له معنى، كما لو كانوا في حالة الحداد، يجلس الجميع دون رغبة في الكلام. لكن رنات الهواتف كسرت الصمت، تحدثوا بالفرنسية، سألتُ إحدى الصديقات “ماذا؟”…
– الجميع سيذهب الى ساحة الباستيل للمشاركة في مظاهرة احتجاجية على نتائج الانتخابات
– الآن؟
– نعم. الجميع هناك
– فلنذهب
كانت الوجوه المسافرة في “المترو” عابسة ومكتئبة، ممتنعة عن الكلام. حاولت تصور ما يمكن أن أراه هناك، من هناك؟ كم؟ عشرات؟ مئات؟ من أي نوع ستكون المظاهرة؟
في داخل محطة المترو “الباستيل” كان بالامكان استنشاق بعض الغاز المسيل للدموع، ورؤية بعض الشبان يركضون في المحطة. حين خرجنا من المحطة لم يكن هناك العشرات او المئات من المتظاهرين بل كان هنالك نحو ألفيّ متظاهر ومتظاهرة، من أصول وألوان مختلفة. المظاهرة كانت محاطة بمئات الشرطيين من الوحدة الخاصة بلباسهم الأسود، مجهزين بكافة مستلزمات تفريق المظاهرات.
“كيف عرف كل هؤلاء عن المظاهرة؟”، سألتُ صديقتي.
“إنها عفوية، تناقل الخبر بشكل عفوي، هذا بالاضافة الى أن الجميع غاضب على النتائج، والباستيل معروفة كموقع لمظاهرات اليسار لهذا من الطبيعي ان يكون المكان الاول الذي يقدمون إليه”.
“أيها الفاشي ساركوزي، الشعب سيسلخ جلدك”؛ “التضامن مع من هم بدون أوراق”؛ “شرطة إس إس” (في إشارة إلى البوليس النازي)، كانت من بين الهتافات التي رُدِّدت.
لم يكن هذا المشهد غريبًا عليّ، للحظة اعتقدت أني في الناصرة أو أم الفحم أو سخنين، عشرات المتظاهرين كانوا يرتدون الكوفية الفلسطينية، رجال الشرطة لم يختلفوا عن وحدات “اليسام” التي بطشت بنا مرارًا. هنا أيضًا في باريس لم يتردد رجال الشرطة في إطلاق الغاز المسيل للدموع رغم أن المظاهرة لم تكن بالعنيفة أو المستفزة، هنا أيضًا وجوه رجال الشرطة التي تبدو جميعها متشابهة، مليئة بالعدائية والحقد والترهيب، آلية البطش هي هي، أينما كان.
في محاولة لتمضية الوقت بدأنا، أنا وصديقاتي، بمقارنة الغاز الفرنسي بالإسرائيلي، استخلصنا التالي: الغاز المسيل للدموع الفرنسي يطلق بمجموعات (أي ان كل طلقة تحتوي على مجموعة من القنابل التي تتناثر بين المتظاهرين) لكنه لا يدوم لوقت طويل وتأثيره طفيف. الغاز الاسرائيلي يطلق بالمفرّق، يدوم أكثر وتأثيره أقوى.
وكما يحدث عندنا، فلم ينجح الغاز المسيل للدموع والماء من بعده في تفريق المظاهرة، بل أسهما في تصعيدها، انتقل بعض المتظاهرين الى الشوارع الفرعية وبدأوا بإحراق حاويات النفاية وتكسير واجهات المحلات ورشق الحجارة والزجاجات على رجال الشرطة.. المزيد من الغاز المسيل للدموع، بعض الاعتقالات، حرق وتكسير، شعارات وغضب، “شرطة إس إس” هكذا استمر الحال الى ساعة متأخرة من الليل.
بحسب الكثيرين كان استعمال الغاز المسيل للدموع سريعا هذه المرة مقارنة بمرات سابقة، عادةً لا تبدأ الشرطة بإطلاق الغاز المسيل للدموع بهذه السرعة. “يريدون إخماد كل شيء قبل ان يبدأ” قالت لي منال، ناشطة يسارية في باريس، “الدولة ليست معنية بأي تصعيد، على العكس، تريد تأكيد سلطة ساركوزي”.
منال قالت بان الامر واضح بحسب تعامل وسائل الاعلام مع المظاهرة، فقد تجاهلت الغضب في الباستيل ونقلت احتفالات سركوزي في ساحة “الكونكورد” الباريسية، حيث شارك فيها عشرات الآلاف، ومنهم المغني الجزائري الفرنسي رشيد طه الذي غنى للمحتفلين!
* “المهاجرون” قلقون
كانت هذه ليلتي الأولى في باريس، صديقاتي واصدقائي المقيمون في باريس قالوا مداعبين “ألا تشعرين كما لو كنت في البيت، في فلسطين؟” أجبت بسخرية “فلسطين، باريس، ما الفرق؟”
لقد تغيرت باريس كثيرًا في الأعوام الاخيرة، أصبح الشغل الشاغل للرأي العام قضية “المهاجرين” والأقليات وأولئك المدعوين “sans papiers” (بلا أوراق)، إشارةً إلى من يمكث بشكل “غير قانوني” في فرنسا.
في اليوم التالي خرجت برفقة صديقتي للتجول في المدينة، كانت محطتنا الاولى في حي للأقليات، توقفنا في أحدى المقاهي لمشاهدة التلفزيون الذي بث اخبارًا عن مواجهات الأمس. اتضح لنا ان ما جرى بالأمس في باريس، حدث في فرنسا كلها: الجماهير الغاضبة خرجت في كل مكان الى الشارع للتعبير عن غضبها من فوز مرشح اليمين ساركوزي.
تجمّع عدد من الاشخاص أمام الشاشة وراحوا يتناقشون بالفرنسية. أحدهم عبّر عن عدم رضاه مما شاهد من تكسير واجهات وحرق سيارات وغيرها، صديقتي ترجمت لي ما ململه بالفرنسية: “لست مع ساركوزي ولكن يجب تقبّل النتائج وعدم التصرف بهذا الشكل”.
نصيرة – شابة جزائرية الأصل تعمل في المقهى – وسيّد – زبون مصري الأصل – رحبوا بنا وبدأوا يحدثوننا عن حزنهم على النتائج، نصيرة قالت إنها تتفهم ما فعله هؤلاء الشباب بالامس، “يحق لهم أن يغضبوا”، قالت بلهجتها الجزائرية.
“ماذا نتوقع؟ سركوزي شبّه هؤلاء الشباب بالحثالة التي يجب كنسها بالماء، وهو الآن في الحكم، غضبهم مشروع”، قال سيّد. نصيرة أضافت: “لقد حُرقت سيارة أخي بالأمس، ولكن لا يهم، أنا أفهمهم”.
أليف ونصيرة، أيضًا جزائريا الأصل، كانا يجلسان بالقرب منا، لم يوافقا مع نصيرة وسيد. أليف أصر على أنه “يجب القبول بالحسم الديمقراطي والاعتراف بالنتائج، لا يمكن التعبير عن الغضب بهذه الطريقة”.
غالبية اولئك الذين تواجدوا في المقهى قالوا لي بانهم صوتوا لمرشحة اليسار، سيغولين رويال. محمود، التونسي الأصل، قال إنه لم يكن مقتنعًا بها إلا أن الخوف من فوز ساركوزي لم يبق له مجالا للتردد. محمود بدأ يتحدث عن انتقاداته لرويال. “الحقيقة هي ان راجلها (أي زوجها – ع.ق) يقف من وراء كل أقوالها وأفعالها”. كانت ردة فعل نصيرة سريع جدًا، فقد ضربته على يده وحملت فنجان قهوة باليد الأخرى مهددة اياه بمغاردة الطاولة إذا لم يتوقف على الحديث بهذا الشكل. نظرتُ إليها مبتسمة فقالت: “أردتُ أن تكون امراة رئيسة للدولة، لماذا لا نكون في الحكم؟”.
* مرحلة جديدة من السياسة النيوليبرالية
الانتخابات الفرنسية استولت على اهتمام العالم، رويال مرشحة اليسار وساركوزي مرشح اليمين تنافسا على رئاسة الدولة، خلفًا لجاك شيراك، الذي دامت ولايته عشر سنوات. ساركوزي أشغل منصب وزير الداخلية خلال الخمس سنوات الاخيرة، أي ان المواجهات التي حدثت قبل حوالي العامين في ضواحي باريس حدثت تحت سلطته كوزير للداخلية.
كان الشعار المركزي لحملته الانتخابية “إعمل اكثر، تربح اكثر”، وهو الشعار الذي عبر عن برنامجه السياسي والاقتصادي، فهو يؤمن بأن على كل فرد العمل والاجتهاد لكي يحصل معيشته ويحسن وضعه الاجتماعي-الاقتصادي، ويجب تقليص مسؤوليات الدولة في هذا الشأن. باختصار يريد ساركوزي تبني النظام الامريكي الرأسمالي، وتدمير دولة الرفاه في فرنسا. فرنسا في عهد ساركوزي ستشهد مرحلة جديدة من السياسة النيوليبرالية، تشمل الخصخصة وتقليص الخدمات الاجتماعية. اضافة الى هذا يحمل ساركوزي فكرا فاشيا وعنصريا تجاه الأقليات والمهاجرين، وكانت إحدى تصريحاته الاكثر فاشية في العام الماضي حين كان في زيارة لاحدى ضواحي باريس حيث قال مشيراً الى ابناء المهاجرين الذين تظاهروا محتجين على زيارته بانه سينظف هذه الحثالة بواسطة الماء!
لقد وعد في حملته الانتخابية بملاحقة المهاجرين، تقييد و “التخلص” من هؤلاء الذين “sans papiers”. كما اكد بانه يريد ان يحافظ على “فرنسا للفرنسيين”. العديدون ينظرون بعين القلق إلى تصريحاته ويرون فيه عدوًا للعرب و المسلمين، للمهاجرين، للطبقة العاملة، لنظام الرفاه الاجتماعي في فرنسا.
على صعيد السياسة الخارجية، سركوزي سيشكل الضلع الثالث في المثلث مع بوش وبلير، تبعيته لسياسة بوش ستقلص حجم ودور فرنسا على الساحة الدولية، هذا بالاضافة الى أن سياسة شيراك المعتدلة نوعًا ما (نسبيًا طبعًا) ستتلاشى في عهد ساركوزي.
وكان برنارد غيتا – أحد الصحافيين المؤيدين لساركوزي – قال بعد الانتخابات بيومين إن ” الوقت قد حان لتعوّض فرنسا تأخير 30 عامًا بعد تاتشير وريغن، علينا أن نفهم أننا بحاجة أقل للدولة وأكثر للسوق”.
* الملايين حُرمت من التصويت!
حين سألت روّاد المقهى الجزائري عن توقعاتهم في الفترة المقبلة. أعرب جميعم عن تخوّفه من أن يقوم ساركوزي بتنفيذ وعوده وخاصة في قضية ملاحقة المهاجرين وتقليص الحقوق الاجتماعية. “هنالك حالة خوف وهلع في الشارع” قال محمود. بعضهم توقع أن تستمر المظاهرات وأن تشهد فرنسا موجة جديدة من المواجهات والعنف. أما سيّد، فلم يكن لديه شك في أن سياسة ساركوزي ستورّط فرنسا: “ما حدث في أمريكا وبريطانيا واسبانيا من تفجيرات، سيحدث في فرنسا في عهد سركوزي”.
لوسيا – بائعة في محل لـ”التجارة العادلة”، كولومبية الأصل – حدثتني عن تخوفاتها: “ساركوزي سيقسم فرنسا الى فرنسيين وغير فرنسيين، سيُأمرك فرنسا وينهي نظام الرفاه الاجتماعي ويزيد الفجوات الاجتماعية. ويضرب بالمساواة، التي هي أحدى أهم أسس النظام الفرنسي، عرض الحائط”.
لوسيا لا تملك حق التصويت على الرغم من انها تعيش في فرنسا منذ سبع سنوات. ولكن لوسيا ليست وحدها.. فالتقديرات تشير الى أن حوالي ثلاثة ملايين مهاجر لا يملكون حق التصويت. “هذا ليس عدلا”. تقول لوسيا. “نحن نعيش هنا، ندفع الضرائب ونؤدي واجباتنا ولكننا محرومون من حقنا الاساسي بالتصويت”.
هذا ما اشار اليه العديد من رواد المقهى الجزائري حيث اكدوا بانه لو استطاع هؤلاء التصويت لكان بالامكان تغيير نتيجة الانتخابات.
على بعد كيلومترات من هذا الحي هنالك قناة تقيم على ضفتيها عشرات العائلات في خيم. هذه العائلات مهددة بالطرد في أي لحظة. بقرب الخيم جلس بيير (18 عاما)، شاب فرنسي عاطل عن العمل، بيير كان بين المتظاهرين في ساحة الباستيل وحدّثنا عن ان مشاركته في المظاهرة جاءت لتؤكد انه لا يقبل النتائج. “ساركوزي سيحوّل فرنسا الى ديكتاتورية” قال مؤكدًا انه يؤمن بان المظاهرات يجب ان تستمر، يجب تصعيد النضال وان يتوحد الجميع لمحاربة نظام ساركوزي “يجب علينا عدم السماح بقبول نظامه القمعي”.
في نظر لوسيا، فرنسا تعتبر رمزا للحرية والمساواة وحقوق الانسان “لكن في عهد سركوزي فرنسا ستفقد هذا” قالت لي بحزن.
في طريق عودتنا مررنا عبر أحد الشوارع في حي غني. مرت سيارة، أخرج سائقها رأسه صائحًا: “يعيش ساركوزي، يعيش الأغنياء!”